فصل: تفسير الآيات (32- 34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (20- 23):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)}
وقوله سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ...} الآية:. قيل: إنها نزلت بسبب اختلافهم في النَّفْل، ومجادلتهم في الحق، وكراهيتهم خروج النبي صلى الله عليه وسلم، و{تَوَلَّوْاْ} أصله: تتولوا.
وقوله: {أَنتُمْ تَسْمَعُونَ} يريد دُعَاءه لكم بالقرآن والمواعظ.
وقوله: {كالذين قَالُواْ} يريد الكفار؛ إما من قريش لقولهم: {سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا} [الأنفال: 31] وأما الكفار على الإطلاق.
وقوله سبحانه: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الصم البكم} مَقْصِدُ الآية بيان أن هذه الصنيفة العاتية من الكُفَّارِ هي شَرُّ النَّاسِ عند اللَّه سبحانه وأنها في أخَسِّ المَنَازِلِ لديه، وعبر بالدواب ليتأكد ذمهم، وقوله: {الصم البكم} عبارة عما في قلوبهم، وعدم انشراح صدورهم، وإدراك عقولهم.
وقوله: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ} أي سماع هدى، وَتَفَهُّمٍ، {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} أي: ولو فهمهم {لَتَوَلَّواْ} بحكم القضاء السابق فيهم، ولأعرضوا عما تبين لهم من الهُدَى.

.تفسير الآيات (24- 26):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)}
وقوله سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ...} الآية: {استجيبوا} بمعنى: أجيبوا وقوله: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} قال مجاهد والجمهور: المعنى للطاعة، وما يتضمنه القرآن، وهذا إحياء مستعار؛ لأنه من مَوْتِ الكفر والجهل، والطَّاعَةُ تؤدي إلى الحَيَاةِ الدائمة في الآخرة.
وقوله سبحانه: {واعلموا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} يحتمل وجوهاً:
منها: أنه لما أمرهم سبحانه بالاستجابة في الطاعة، حضَّهم على المبادرة والاستعجال، وأعلمهم أنَّه يحولُ بين المرء وقَلْبه بالموت والقَبْض، أي: فبادروا الطاعات، ويلتئم مع هذا التأويلِ قوله: {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}، أي: فبادروا الطاعات، وتزوَّدوها ليوم الحَشْر.
ومنها: أن يقصد إِعلامهم أن قُدْرة اللَّه وعلْمه وإِحاطته حائلةٌ بين المرء وقلبه، فكأن هذا المعنَى يحضُّ على المراقبة والخَوْفِ للَّه المُطلَّع على الضمائر؛ حُكِيَ هذا التأويلُ عن قتادة ويحتملُ أن يريد تخويفهم؛ إِنْ لم يمتثلوا الطَّاعات، ويستجيبوا للَّه وللرَّسول؛ أَنْ يَحُلَّ بهم ما حل بالكفَّار الذين أرادهم بقوله: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]؛ لأن حَتْمهُ عليهم بأنهم لو سَمِعُوا لم ينتفعوا يقتضِي أنه كان قد حال بينهم وبَيْنَ قلوبهم.
ومنها: أنْ يكون المعنَى ترجيةً لهم بأنَّ اللَّه يبدِّل الخوف الذي في قلوبهم مِنْ كثرة الَعدُوِّ، فيجعله جراءةً وقوةً، وبضدِّ ذلك للكفَّار، أي: فإِن اللَّه تعالَى هو مقلِّب القلوب؛ كما كان قسم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل غير هذا.
قال مكِّيٌّ، وقال الطبريُّ: هذا خبر من اللَّه عز وجلَّ؛ أنه أَمْلَكُ بقلوبِ العباد منهم لها، وأنه يحولُ بينهم وبينها إِذا شاء حتى لا يُدْرِك الإِنسان شيئاً من إِيمان ولا كُفْر، ولا يعي شيئاً، ولا يفهم شيئاً إِلا بإذنه ومشيته سبحانه، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول في دعائه: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي علَى دِينِكَ» انتهى من الهداية.
وروى مالكُ بن أنس والنسائي، أن رَسُولَ اللَّهَ صلى الله عليه وسلم دَعَا أُبَيَّ بْنُ كَعْب وهو في الصَّلاَة، فَلَمْ يُجِبْهُ، وأَسْرَعَ في بَقِيَّةِ صَلاَتِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ جَاءَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}؟ قال أُبَيٌّ: لاَ جَرَمَ، يا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ تَدْعُونِي أَبَدَاً إِلاَّ أَجَبْتُكَ... الحديث بطوله، واختلاف ألفاظه، وفي البخاريِّ ومسلم؛ أن ذلك وقع مع أبي سَعِيدِ بن المعلى، وروي أنه وقع نحوه مع حُذَيْفَة بن اليَمَانِ في غزوة الخَنْدَق.
وقوله: عزَّ وجلَّ: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} في الآية تأويلاتٌ، أسبقها إِلى النفْسِ، أن اللَّه سبحانه حذَّر جميع المؤمنين من فتنة إِن أصابَتْ لم تخصَّ الظلمة فقطْ، بل تصيبُ الكُلَّ من ظالمٍ وبريءٍ، وهذا تأويلُ الزُّبَيْر بن العَوَّام، والحسنِ البَصْرِيِّ، وكذلك تأويل ابن عباس؛ فإنه قال: أمر اللَّه المؤمنين في هذه الآية ألاَّ يقروا المُنْكَرَ بين أظهرهم، فيعمَّهم العذاب و{خَاصَّةً}: نعت لمصدرٍ محذوف، تقديره إِصابةً خاصةً، فهي نصب على الحال، وقرأ علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه وغيره: {لتُصِيبَنَّ}- باللام- على جواب قسم، والمعنَى على هذا: وعيدٌ للظلمة فقط.
وقوله سبحانه: {واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ...} الآية: هذه الآية تتضمَّنِ تعديد نِعَم اللَّه على المؤمنين، و{إذ}: ظرفٌ لمعمول، {واذكروا}: تقديره: واذكروا حالَكُم الكائنةً، أو الثابتَةَ إذْ أنتم قليل، ولا يجوزُ أنْ تكون {إذْ} ظرفاً للذِّكْر.
وإِنما يعمل الذِّكْرُ في {إذْ} لو قدَّرناها مفعولة، واختلف في الحال المشار إِليها بهذه الآية.
فقَالَتْ فرقَةٌ؛ وهي الأكثر: هي حالُ المؤمنين بمكَّة في وقْتِ بداءةِ الإسلام، والنَّاس الذين يُخَافُ تخطُّفُهم كُفَّار مكَّة، والمأْوَى: المدينةُ، والتأييدُ بالنَّصْر: وَقْعَةُ بَدْرٍ وما انجر معها في وقتها، والطيبات: الغنائم وسائر ما فتح الله عليهم به، وقالتْ فرقة: الحال المشارُ إليها هي حالهم في غزوة بَدْرٍ، والناس الذين يُخَافُ تخطُّفهم، على هذا: عسكر مكَّة وسائر القبائل المجاورة، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يتخوَّف من بعضهم، والمأوى على هذا، والتأييد بالنصر: هو الإِمداد بالملائكَةِ والتغليبُ على العدو، والطَّيِّبَات: الغنيمة.

.تفسير الآيات (27- 29):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)}
وقوله سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول} هذا خطابٌ لجميع المؤمنين إِلى يوم القيامة، وهو يجمع أنواع الخياناتِ كلَّها قليلَهَا وكثيرَهَا، والخيانةُ: التنقُّص للشيءِ باختفاء، وهي مستعْمَلَةٌ في أنْ يفعل الإِنسان خلاف ما يَنْبَغِي مِنْ حفظ أمْرٍ مَّا، مالاً كان أو سرًّا أو غير ذلك، والخيانة للَّه عَزَّ وجل: هي في تنقُّص أو أمره في سِرٍّ.
وقوله: {وَتَخُونُواْ أماناتكم}.
قال الطبريُّ: يحتمل أن يكون داخلاً في النهيْ؛ كأنه قال: لا تخونوا اللَّه والرسولَ، ولا تخونوا أماناتِكُمْ، ويحتمل أن يكون المعنَى: لا تخونوا اللَّه والرسول؛ فذلك خيانةٌ لأماناتكم.
وقوله: {فِتْنَةٌ}، يريد: محنةً واختبارا وامتحانا؛ ليرى كَيْفَ العملُ في جميع ذلك.
وقوله: {وَإِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}، يريد: فوز الآخرة، فلا تَدَعُوا حظَّكم منه؛ للحيطة على أموالكم وأبنائكم؛ فإِن المذخور للآخرة أعظمُ أجراً.
قوله سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ الله...} الآية: وعْدٌ للمؤمنين بشرط التقوى والطاعةِ للَّه سبحانَهُ، و{يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا}: معناه: فرْقاً بين حقِّكم، وباطل مَنْ ينازعكم؛ بالنصْر والتأييد، وعبَّر قتادة، وبعضُ المفسِّرين عن الفُرْقَان هاهنا بالنجاةِ، وقال مجاهدٌ والسُّدِّيُّ: معناه: مَخْرَجاً، ونحو هذا مما يعمه ما ذكَرْناه، وقد يوجَدُ للعرب استعمال الفرقان، كما ذكر المفسِّرون؛ وعلى ذلك شواهد؛ منها قول الشاعر: [الطويل]
وَكَيْفَ أُرَجِّي الخُلْدَ والمَوْتُ طَالِبِي ** وَمَاليَ مِنْ كَأْسِ المَنيِّةِ فُرْقَانُ

* ت *: قال ابن رُشْد: وأَحْسَنُ ما قيلَ في هذا المعنى قوله تعالى: {يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا}؛ أي: فَضْلاً بين الحق والباطل؛ حتى يعرفوا ذلك بقلوبهم، ويهتدوا إِليه. انتهى من البيان.

.تفسير الآيات (30- 31):

{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)}
وقوله سبحانه: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ...} الآية: تذكيرٌ بحال مكَّة وضيقها مع الكفرة، وجميل صُنْع اللَّه تعالى في جميع ذلك، والمَكْرُ: المخاتلة والتداهي؛ تقول: فلانٌ يَمْكُرُ بفلان؛ إِذا كان يستدرجه، وهذا المكر الذي ذكر اللَّه تعالى في هذه الآية هو بإِجماع من المفسِّرين: إِشارةٌ إِلى اجتماع قُرَيْش في دار النَّدْوَةِ بمحْضَر إِبْليسَ في صورة شيخٍ نَجْدِيٍّ على ما نصَّ ابن إِسحاق في سِيَرِهِ الحديثَ بطوله، وهو الذي كان خُرُوجُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بسببه، ولا خلاف أن ذلك كان بَعْدَ مَوْت أبي طالب، ففي القصَّة: أن أبا جهْلٍ قال: الرأْيُ أنْ نأخذ من كل بطنٍ في قريشٍ فَتًى قويًّا جَلْدياً، فيجتمعون ثم يأخُذ كُلُّ واحد منهم سيفاً، ويأتون محمداً في مَضْجَعه، فيضربونه ضَرْبةَ رجُلٍ واحدٍ، فلا تَقْدِرُ بَنُو هاشِمٍ على قِتالِ قُرَيْشَ بأسرها، فيأخذون العَقْلَ، ونستريحُ منه، فقال النَّجْدِيُّ: صدق الفَتَى؛ هذا الرأيُ: لاَ رَأْيَ غيره، فافترقوا عَلَى ذلك، فأخبر اللَّه تعالَى بذلك نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وأذن له في الخُرُوجِ إِلى المدينة، فخرج رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من ليلته، وقال لعليِّ بنْ أَبي طالب: «التف في بُرْدِيَ الحَضْرَمِيِّ، واضطجع فِي مَضْجَعِي؛ فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّكَ شَيْء، فَفَعَل»، فجاءَ فتْيَانُ قُرَيْشٍ، فجعلوا يرصُدُون الشخْصَ، وينتظرون قيامه، فيثورون به، فلما قام رَأَوْا عَلِيًّا، فقالوا له: أيْنَ صَاحِبُكَ؟ فقال: لا أدْرِي، وفي السِّيَر؛ أن رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَلَيْهِم، وهُمْ في طريقه، فطَمَسَ اللَّه أعينهم عَنْه، وجعل عَلَى رأس كلِّ واحد منهم تراباً، ومضَى لوجهه، فجاءهم رجُلٌ، فقال: مَا تَنْتَظِرُونَ؟ قَالُوا: محمَّداً، قال: إِنِّي رأَيْتُهُ الآن جائياً من ناحيتكم، وهو لا مَحَالَة، وضَعَ الترابَ علَى رؤوسكم، فَمَدّ كلُّ واحدٍ يده إِلى رَأْسِهِ، فإِذا عليه الترابُ، وجاؤوا إلى مضجعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجدوا عَلِيًّا، فركبوا وراءه حينئذٍ كُلَّ صَعْبٍ وذَلُولٍ، وهو بالغارِ، ومعنى: {لِيُثْبِتُوكَ}: لِيَسْجُنُوكَ؛ قاله عطاء وغيره وقال ابنُ عَبَّاس وغيره: ليُوثِقُوكَ.
وقوله سبحانه: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آياتنا}، يعني: القرآن، {قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا}، وقولهم: {إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين}، أي: قَصَصُهُمُ المَكْتُوبةُ المسْطُورة، وأساطيرُ: جمع أُسْطُورَةٍ، ويحتملُ حمع: أَسْطَار، وتواترتِ الرواياتُ عن ابنِ جُرَيْج وغيره: أن قائل هذه المقالة هو النَّضْرُ بنُ الحارِثِ؛ وذلك أنه كان كَثِيرَ السَّفَرِ إِلى فَارسَ والحِيرَة، فكان قد سَمِعَ من قصص الرهبان وأخبار رُسْتُم وإسْفِنْديَار، فلما سمع القرآن، ورأى فيه أخبار الأنبياء والأمم، قال: لو شئت لقلْتُ مثْلَ هذا، وكان النضْرُ من مَرَدةِ قريشٍ النائلين من النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ونزلَتْ فيه آيات كثيرة من كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ، وأمْكَنَ اللَّه منْهُ يَوْمَ بدر، وقتله رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَبْراً بالصَّفْرَاء مُنْصَرَفَهُ من بَدْرٍ في موضعٍ يقال له الأَثيل، وكان أَسَرَهُ المِقْدادُ، فلما أمر رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بضرب عُنْقِهِ، قال المقداد: أَسِيرِي، يا رَسُولَ اللَّهِ! فقال رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ في كِتَابِ اللَّهِ مَا قَدْ عَلِمْتُمْ»، ثُمَّ أَعَادَ الأَمْرَ بِقَتْلِهِ، فَأَعَادَ المِقْدَادُ مَقَالَتَهَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ، أَغْنِ المِقْدَادَ مِنْ فَضْلِكَ»، فَقَالَ المِقْدَادُ: هَذَا الَّذِي أَرَدتُّ، فَضُرِبَتْ عُنُقُ النَّضْر.

.تفسير الآيات (32- 34):

{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)}
وقوله عز وجل: {وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ...} الآية: رُوِيَ عن مجاهدٍ وغيره: أن قائل هذه المقالة هو النَّضْرُ بْنُ الحَارثِ المذكورُ، وفيه نزلَتْ هذه الآية.
قال * ع *: وترتَّب أن يقول النَّضْرُ مقالَةً، وينسبها القُرآن إِلى جميعهم؛ لأن النضر كان فيهم موسُوماً بالنُّبْل والفَهْم، مسكوناً إِلى قوله، فكان إِذا قال قولاً قاله منهم كثيرٌ، واتبعوه عليه؛ حَسَب ما يفعله الناسُ أبداً بعلمائهم وفقهائهم.
* ت *: وخرَّج البخاريُّ بسنده، عن أنسِ بنِ مالكٍ، قال: قَالَ أَبو جَهْلٍ: اللَّهُمَّ إِن كان هذا هُوَ الحَقَّ من عندكْ، فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فنزلَتْ: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ}، إِلى: {عَنِ المسجد الحرام} ا ه، والمشار إِليه ب {هذا} هو القرآن وشَرْعُ محمَّد صلى الله عليه وسلم، والذي حملهم على هذه المقالة هو الحَسَدُ، فعَمِيَتْ بصائرهم عن الهدَى، وصَمَّموا على أنَّ هذا ليس بحقٍّ، نعوذ باللَّه من جَهْدِ البلاءِ، وسُوء القضاء، وحكى ابن فُورَكَ: أن هذه المقالة خرجَتْ منهم مَخْرَجَ العنادِ، وهذا بعيدٌ في التأويل، ولا يقولُ هذا على جهة العناد عاقلٌ، وقراءةُ الناسِ إِنما هي بنَصْب {الحق}؛ على أنه خَبَرَ كان، ويكون هو فَضلاً، فهو حينئذٍ اسم، وأمْطِرْ إِنما تستَعْملُ غالباً في المكروه، ومَطَرَ في الرحمة؛ قاله أبو عُبَيْدة.
وقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ...} الآية: قالَتْ فرقة: نزلَتْ هذه الآية كلُّها بمكَّة، وقالت فرقة: نزلَتْ كلُّها بعد وقعة بَدْرٍ؛ حكاية عما مضَى.
وقال ابْنُ أَبْزَى: نَزَلَ قوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} بمكَّة إِثر قولهم: {أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، ونزل قوله: {وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، عند خروج النبيِّ صلى الله عليه وسلم من مكَّة في طريقه إِلى المدينة، وقد بقي بمكَّة مؤمنون يستغفرون، ونَزَلَ قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله...} إلى آخر الآية، بعد بَدْر عند ظهور العَذَاب عليهم.
* ت *: وهذا التأويل بَيِّن، وعليه اعتمد عِيَاضٌ في الشِّفَا قال: وفي الآية تأويلٌ آخر، ثم ذكَرَ حديث التِّرْمِذيِّ، عن أبي موسَى الأشعريِّ، قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَنْزَلَ اللَّهُ تعالى عَلَيَّ أَمَانَيْنِ لأُمَّتي: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، فَإِذَا مَضَيْتُ، تَرَكْتُ فِيهِمْ الاستغفار» انتهى.
قال * ع *: وأجمعَ المتأوِّلون عَلى أن معنى قوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} أن اللَّه عزَّ وجلَّ لم يعذِّب قطُّ أُمةً ونبيُّها بَيْنَ أظهرها، أي: فما كان اللَّه ليعذِّب هذه الأمة، وأنْتَ فيهم، بل كرامَتُكَ لديه أعظَمُ.
وقوله عز وجل: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله} تُوعُّد بعذاب الدنيا، والضميرُ في قوله: {أَوْلِيَاؤُهُ}: عائدٌ على اللَّه سبحانه، أو على المسجدِ الحرامِ، كلُّ ذلك جيِّد، ورُوِيَ الأخير عن الحسن.
وقال الطبريُّ: عن الحسنِ بْنِ أَبي الحسنِ أن قوله سبحانه: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله} ناسخ لقوله: {وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.
قال * ع *: وفيه نظر؛ لأنه خبر لا يدخلُهُ نَسْخٌ.

.تفسير الآيات (35- 36):

{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)}
وقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} المُكَاء: الصَّفير؛ قاله ابن عباس والجمهورُ، والتصدية: عبَّر عنها أكْثَرُ النَّاس؛ بأنها التصفيقُ، وذهب أكثر المفسِّرين إِلى أَن المُكَاء والتَّصْدية إِنَّما أحدثهما الكُفَّار عند مبعث النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِتَقْطَعَ عليه وعلى المؤمنين قراءَتَهم وصلاتَهم، وتخلطَ عليهم، فلما نفى اللَّه تعالى وِلاَيتهم للبَيْت، أمْكَنَ أن يعترض منهم معترضٌ بأنْ يقول: وكيف لا نَكُونُ أولياءه، ونحن نَسْكُنُهُ، ونصلِّي عنده؛ فقطع سبحانه هذا الاعتراض بأنْ قال: وما كان صلاتهم عند البيت إِلا المكاءً والتَّصْدية.
قال * ع *: والذي مَرَّ بي من أمر العرب في غير ما دِيوَان؛ أنَّ المكاء والتصدية كانا مِنْ فعل العرب قديماً قبل الإِسلام علَى جهة التقرُّب به والتشرُّع؛ وعلَى هذا يستقيم تغييرُهُم وتنقُّصهم بأَن شرعهم وصلاتهم لم تَكُنْ رهبةً ولا رغبةً، وإِنما كانَتْ مكاءً وتصديةً من نوع اللعب، ولكنَّهم كانوا يتزيَّدون فيهما وقْتَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليشغلوه هو وأمته عن القراءة والصَّلاة.
وقوله سبحانه: {فَذُوقُواْ العذاب...} الاية: إِشارةٌ إِلى عذابهم ببَدْرٍ بالسيف؛ قاله الحسن وغيره؛ فيلزم أن هذه الآية الآخِرَةَ نزلَتْ بعد بَدْرٍ، ولا بدَّ.
قال * ع *: والأشبه أنَّ الكلَّ نزل بعد بَدْرٍ؛ حكايةً عما مضَى.
وقوله سبحانه: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أموالهم لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله...} الآية: لما قُتِلَ من قُتِلَ ببدر، اجتمع أبناؤهم وقراباتهم، فقالوا لِمَنْ خَلُصَ ماله في العِيرِ: إِن محمَّداً قد نال منَّا ما تَرَوْنَ، ولكنْ أعينونا بهذا المال الذي كانت سَبَبَ الوَقعَةِ، فلعلَّنا أنْ ننال منه ثأراً، يريدون نفقته في غَزْوَةَ أَحُدٍ.
وقوله سبحانه: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ}، الحَسْرة: التلهُّف على فائتٍ، وهذا من أخبار القرآن بالغيوب قبل أن تكون، فكان كما أخبر، ثم أخبر سبحانه عن الكافرين، وأنهم يُجْمَعُونَ إِلى جهنَّم، والحَشْر: الجمع.